الدكتورة وجدان الصائغ
لم يكن مفاجئا لي ان اقرا مجموعة شعرية جديدة للشاعر القدير احمد العجمي فقد عرفته شاعرا مجيدا من خلال مجاميعه التي شكلت اضافة نوعية للمكتبة الابداعية العربية ، ولكن المفاجىء لي ان يكتب عني وعن طفولتي وصباي ويؤرخ لها بهذه الطريقة المبهرة المربكة المقلقة . بل انه لم يكتب عني فقط بل كتب عن جيلي(جيل ما بين النهرين) الذي عركته الحرب فتعود على رائحتها المشبعة بالبارود وعلى يومياتها المبتلة بالدمع وعلى مدار اكثر من ثلاثة عقود، وهو ما جعلني اتساءل كيف استطاع احمد العجمي بمخياله الشعري ان يجتاز الحد الفاصل بين من يرقب الحرب من الخارج وبين من عاش لحظاتها الدامية ؟ وكيف نجحت صوره الشعرية ان تذر الرماد امامي لتعيدني الى تلك اللحظات التي تكورت تحت طواحينها ايامي واحلامي الضائعة؟ وكيف استطاع ان يجعلني اغالب دمعي وانا اتابع نصوصه التي كانت اشبه بغزلان برية نافرة تتقافز امامي لاتابعها مكسورة القلب دامعة العين ؟ لا اعرف كيف استطاعت مزامير العدم ان تعزف تراتيلها الشعرية في محراب الحزن لتجعلني وجها لوجه مع جرح ينز فينثر الدمع كلما لمسته الذاكرة .
لم تكن تلك المزامير التي نثرت انينها وهي ترقب زحف الموت على نبض الحياة ، لم تكن مزامير تعكس وجهنا العربي حسب وانما عكست الوجه الانساني المتعب الذي وقف حائرا امام شراسة الحرب في مختلف اصقاع الكون بوصفها فكرة غير قابلة للقراءة وعصية على فهم الانسان الاعزل والطفولة البريئة اليتيمة والام الثكلى ، وقفت هذه المزامير تدين اليد :التي تبارك ايقاد الحرب ، تأمل
الرجل الذي ينظر الى الشجرة
من ثقب عجوز
حتما لايرى العصافير
ولايشعر بملابسنا
وكذلك الافكار التي ترقد
.في احذية الحرب
لم يكن ثقب العجوز الا استدعاء ذكي لعجوز عمرو بن معد كرب:( الحرب أول ما تكون فتية- تسعى ببزتها لكل جهول – حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها – ولت عجوزا غير ذات خليل – شمطاء جزت رأسها ، فتنكرت- مكروهة للشم والتقبيل)
وهو ثقب نتن مهترىء ينجح في ان يشغل موقد الحرب( الرجل الفرد) – بكسر القاف-عن الطفولة البريئة (العصافير ) وعن مشاريع الموت (الجند) وخفق احذيتهم( احذية الحرب ) وهم يجوبون طرقات العدم بوجوه مكفهرة ، وهم يرمقون وجوه الاحبة وافكارهم المبتلة بالدمع والوحشة .
بل ان النص يقودك بوعي جمالي حاد الى يوميات الطفولة التي شكلت الحرب اجندتها اليومية ، تأمل هذه الصورة من قصيدة (ايقاع النيازك) ، ص38:
أنت ذكي يا توما هوك
والدليل
أرجل الأطفال المعلّقة
في حدائق بابل
ليس من الضروري ان اشير الى المفارقة الحادة بين حضارة وادي الرافدين( جنائن بابل المعلقة) وبين التكنولوجيا( توما هوك) فالمعنى مربك ومقلق ويتسلل برشاقة الى التلقي ليخلق من امتزاج خضرة الحدائق بحمرة الموت ببياض البراءة نسيجا يفضح الواقع ويعري الشعارات.
والمزامير تجعلك في نص آخر وجها لوجه مع سجل مفقودي الحرب الذين فقدوا حقهم في امتلاك قبر او شهادة وفاة ، تأمل قصيدة( شهب ) :
لمحتهم في المنام
،لمحت كفوفهم تحفر الظلمة
لمحتهم يلمعون
ولم يتركوا لي فرصة
،لمصافحتهم
إخبارهم بألوان شفاههم
،التي احترقت
.بمكان قبورهم
وجدتهم
مشغولين بتهدئة السماء
.وبتطهير جرح وردة صغيرة
لا ادري لماذا لم اتمالك نفسي وانا اعيد قراءة هذا النص وعجبت كيف اعاد لي مناخ النص صوت الصواريخ التي تصم الاذن وصراخ الطفولة الذبيحة التي رفرفت محلقة بعيدا عن سمواتنا لتتركنا نتكور بشكل يومي تحت طاحون الحرب والموت الجماعي .نجح النص في ان يعيد الى اذني صوت ارتطام الصواريخ بالاهداف الحية وعصفها الممتزج بعويل البشر الذي يشظي زجاج النوافذ ويفتح الابواب الموصدة ويهيل التراب على الوجوه لنهرع مذعورين مولولين على من انتخبهم الموت دون سواهم .
ومن اللافت ان احمد العجمي ينجح في ان يكتب نتفا من سيرة الانوات التي وقفت مجبرة تحت عصف الحرب ، فيستدعي مقطعا طوليا ليوميات الحرب حيث الجدران مغلفة بيافطات الموت السوداء ، والوجوه المطفأة المتعبة المترقبة التي تغرس عينا في السماء واخرى لما تجود به ساحات الموت .
تأمل كيف يعكس احمد العجمي صوت اليتم مثلا (كارثة ):
ما أقسى أن يكون لي أب
،وتنتزعه يد الحرب مني
فأبقى هائماً فوق قمم الحسرات
،وتحت رمال ثقيلة، سوداء
تغذيها دموعي اللامتناهية
وتأمل كيف التحم صوت احمد العجمي بصوت الام المترقبة والمتأملة عودة الغائب الذي قد لايعود :
،عيون الدمار تلمع
وأنا هنا، على أشواك الخوف
أضع قلبي، أنتظر رائحة جسدك
،صوتك الذي يشبع صدري
عُدْ يا ولدي سالماً
من هذا الجنون
وكيف استطاعت المزامير ان تعكس لنا صوت الاخوة المنتهكة في زمن الحرب التي تجز اوصال الروح :
أخي، هل تسمعني؟
،أمام المرآة المطفأة
،في كأس الخمرة
وفي الكلمات الغامضة
،تنعكس صورتك
.ابتسامتك التي سرقتها نهود الحرب
كما تعكس المزامير ايضا صوت الصداقة الذبيحة:
،ماذا فعلت الصواريخ
،فجّرت مقلة السماء
،لوثت السعادة بمكرها
وفي لحظة همجية
خطفت ضوءك يا صديقي الحميم
تركتني أخوض في مستنقعات
الوحدة ؟
انت تلمح وجه جلجامش جديد يطل من بين السطور لا يحلم بعشبة دلمون وانما يحلم بان يمتلك سماء آمنة .
ومماتجدر الاشارة اليه ان مزامير احمد العجمي قد اتخذت تدوينا طباعيا مغايرا للسائد والمألوف فقد عمدت الى تغيير حجم الحرف وكثافة الحبر ، فقد كانت الصفحات مشطورة بين نصين احدهما بحروف كبيرة يصف الحرب وبشاعتها والاخر نص بحروف صغيرة غامقة تشيد بالحب وتدعو اليه بل انه اشبه بنبض القلب وانينه ؟ اشبه بلافتات ملونة مزركشة تنشد زمنا آمنا ويوتوبيا قادمة ، تأمل كيف وقف احمد العجمي لنثر تساؤلاته طارحا الاشكاليات التي تحاصر الانسان العربي :
ما المر أة ؟
ما الحب ؟
مالمستقبل
لا نعرف
،نعرف الموت في الشوارع
،الحرب في المنازل
الكراهية في الاختلاف
نقف صفا ضد الشعر
ضد الحرية
او قد يأخذ النص ابعادا رومانسية حالمة تقفز على اختلافات الراهن المترعة بالتابوهات والفتاوي التي تبيح القتل وتكثف ثقافة التقفيص ، وتكرس دكتاتورية العتمة . تقفز بعيدا عن سعير الحرب والموت حين يقول :
فكم هو جميل
لو أطعمنا أطفالنا الشعر
نضع كتابا للشعر
في حقائبهم المدرسية
والمخيال الشعري يواصل رؤاه الحالمة بالشعر كبديل للحرب :
نضع كتابا للشعر
في السيارة
نضع قصائد
على طاولات المطاعم والمقاهي
ربما يزداد المحبون
او هذا النص :
ماذا لو قرأنا كل يوم قصيدة
عن المسافة بين الهواء والنافذة
عن ريش الصداقة
عن ذهابنا صوب الصمت
هل سنستدير الى الشمس
لتشكل هذه الايقونات الشعرية لافتات تدعو للمصالحة مع الذات والمصالحة مع الاخر ، تدعو الى اعلاء شأن المحبة والصداقة ووضعها حلا بديلا عن الكراهية والمقت .
من اللافت ان غلاف المجموعة المكتنز بالابيض والرمادي قد نجح في ان يجعلك وجها لوجه مع رماد الحرب وهذا ما اكده البيان الشعري الذي زين الصفحة الاخيرة من الغلاف الخلفي حين اعلن : (موتي ايتها الحرب ) . بل ان الغلاف يخلق مواربة دلالية بين وجه احمد العجمي الذي اتعبته الحرب كفكرة وكحقيقة تدب على جغرافيتنا المتعبة المترعة بالشتات وبين الطفولة المسربلة بالسواد . وهذا الغلاف يضيء مؤشرا دلاليا باذخا مفاده ان احمد العجمي لم يخلق نصه الشعري بعيدا عن فضاءات اللون .
وبعد، فان الشاعر احمد العجمي قد جعل من مجموعته الشعرية (مزامير العدم ) معلقة شعرية لقصيدة طويلة شكلت شاهدا ثقافيا وابداعيا للراهن العربي المعاش ، كما نجحت ان تكون مقطعا سيريا ليوميات الانسان المعاصر المحاصر بثقافة الموت والعدم.